كانت أكثر أخواتها ذكاء وتألقاً؛ فقد تألقت منذ صغرها؛ تميزت وتفوقت في المدرسة، وفى الجامعة، وفي العمل. كما تدفّقت تحوَهُمْ حُبّاً ودفئاً، رغم برودة مشاعرهم نحوها. أسرعت تُعد طعام العشاء أصنافاً مُتعدّدة تُناسب أذواق الجميع، فبعد قليل سيجتمع شمل عائلتها في بيتها المتواضع.
عاد زوجها مُحَمّلاً بأصناف من الفاكهة والحلوى. لم تكن في استقباله كعادتها؛ بحث عنها، دخل غرفتها فلم يجدها. ناداها: أمينة! أمينة! أين أنت؟ سمع صوتها: أنا هنا في غرفة المكتب. دخل الغرفة مُتسائلاً: وماذا تفعلين في مثل هذا الوقت؟ رآها غارقة خلف المكتب، وقد تكدّست أمامها أوراق ومظاريف، فسألها مُمازحاً: لم كل هذه الأوراق والمظاريف، كأن ساعي البريد ألقى إليك بجعبته؟! ضحكت وقالت له: إنها مفاجأة؛ لن أخبرك إلا في المساء، حين يحضر الجميع. وعندما اقترب منها أخفت الأوراق بيديها وقالت له: أرجوك؛ لا تُضع بهجة المفاجأة!
دق جرس الباب… دخل الجميع دفعة واحدة. أسرعت تُمسك يد والدتها؛ تُقبلها، وتُساعدُها لتجلس على أقرب أريكة، ثم قبلت رأس أبيها. حاولت أن تساعده ليجلس، فدفعها قائلاً: اتركي يدي.. أنا ما زلت شاباً.. لست كأمك العجوز!
ضحك الجميع.. تبادلوا التحيات والأشواق.
ألقى سلمان – أصغر إخوتها – ما لديه من طرف. إنه آخر العنقود المدلل!
قال زوجها مُداعباً: آخر نكتة يا جماعة، أن أمينة تُعد لكم مُفاجأة!
ردّ أخوها الأكبر: أخشى أن تكون المفاجأة ألا عشاء اليوم!
التفوا حول مائدة الطعام العامرة.. توقفوا عن الكلام والضحك، أكلوا بشهية متناهية، فقال زوجُها مبتسماً: عليكم الآن أن تلقوا النكات، وعلي أن آكل. ردّ الوالد: يا لك من صهر! كيف نتكلم، ولا أحد يجيد الطبخ كما كانت تجيده زوجتي، إلا ابنتي أمينة. طعام رائع سلمت يداك. لحظات رائعة تُمطرُ سعادة وحُبّاً.. تشع صفاء ونقاء. إنها أجمل أوقاتها، حين ترى عُرى الألفة والمحبة، تُحكم وثاق أسرتها الغالية. إنها تُحبّهم جميعاً. تتمنى لهم كل خير كما تتمناه لنفسها تماماً.
تمطى سلمان، وضرب بكلتي يديه على بطنه وقال: لقد امتلأت.. الحمد لله.
قالت له: هيا يا صغيري؛ هيا كل هذه الملوخية، طبختها خصيصاً لأجلك. إنها تُدلِّـله كأمها تماماً. تشعر أن في رضاه رضا والديها عنها. قَدَّمَت لَهُ مُنذ صغره كل ما تستطيع. غمَرَتُهُ حُبّاً ودلالاً ومالاً، وأعطته الكثير، فهو الصغير الأثير!
قال لها: والآن أين المفاجأة؟ وقفت، استعدت للموقف.
قالت لهم: أنا مشغولة منذ شهر بحل مسابقات وألغاز، جائزتها مليون دينار.
صاح الجميع: مليون دينار؟ غير معقول!
قالت: صدقوني. لقد استطعت بعد جهد أن أفك ألغازها، وأن أجيب عن أسئلتها العلمية والثقافية. أنا متأكدة من الحل الصحيح.
قال سلمان: إذن ستفوزين بالمليون دينار حتماً!
أجابته بحدة: لا.. لا.. لن يكون لي وحدي.. إذا حصل وكنت الفائزة لتقاسمتها بالتساوي معكم جميعاً. لن أرضى أن يكون المليون لي وحدي. تصوروا! لقد كتبت باسم كل واحد منا عشر إجابات صحيحة، ووضعتها في عشرة مظاريف، سوف أرسل ستين إجابة صحيحة، أي حسب قانون الاحتمالات ستكون فرصة الفوز لواحد منا أكيدة بإذن الله.
سألها عبد الله: هل أنت جادة يا أمينة أو تمزحين؟ لا.. لا.. أنا واثقة من إجاباتي.. على الأقل سيفوز واحد منا، وسنتقاسم المليون.
قال سلمان مُعترضاً: ومن قال لك سنتقاسم الجائزة؟ أنا شخصياً لو كانت من نصيبي لاحتفظت بها لنفسي، ولما أعطيت واحداً منكم ديناراً!
قالت له: أنت تمزح. غير معقول! أجاب بلا مبالاة: لا.. لا.. لا أمزح إطلاقاً. هذا ما سأفعله!
صمتت أمينة برهة، صدمتها أنانية أخيها الصغير وأحزنتها. ولكن هذا ما يتوقع من شاب تعوّد أن يأخذ من الجميع، ولا يُعطي أحداً. أما أخواها الباقيان، فهما مختلفان تماماً بالتأكيد، وكذلك أمها وأبوها وزوجها. تُرى ما موقفهم لو حصل أحدهم على الجائزة؟ تردّدت قبل أن تسألهم جهراً. خطرت ببالها فكرة.. قالت لهم: ما رأيكم لو أسأل كل واحد منكم سراً عمّا سيفعله بالمليون؟ عليكم أن تجيبوا بصدق وصراحة، لا تخافوا، لن أفشي سركم.. ضحك الجميع، فقد أعجبتهم الفكرة.
تقدمت من أبيها وسألته، فهمس في أذُنها وقال: سوف أتزوج من شابة تجددُ لي حياتي. ولكن تذكري، هذا سر بيننا! نظرت إلى أمها مُشفقة، تمنت أن يكون غير جاد، كما تمنت ألا يكون المليون من نصيبه.
سألت أمها برفق: وأنت يا أحلى أم. همست الأم وأجابت دون تفكير: “سوف أهدي المليون لسلمان؛ فهو الصغير الضعيف، ولم يتزوج بعد.
قالت لنفسها: يا إلهي! كيف تُؤثره علينا جميعاً. ألسنا أولادها؟ كيف تُكسبه المال، وتفقده محبة إخوته واحترامهم؟!
نظرت إلى أخيها عبد الله.. إنه الكبير العاقل.. هو من تعود حمل المسؤولية، والبذل والعطاء. سألته بكل حب: وأنت يا عزيزي؟
طلب منها أن تقترب منه أكثر، وقال بصوت لا يكاد يسمع: سأشتري بيتاً جديداً. سأنفصل بزوجتي وأولادي عن أمك وأبيك. أنا مُتعب جداً من كثرة مسؤولياتي يا أمينة..
يا إلهي! لم تكن تتوقع هذه الإجابة. مُستحيل. إنه مُتضايق من وجود أمه وأبيه. يريد أن يتخلى عن مسؤوليته نحوهما! ليتها لم تسأله. شعرت بدوار خفيف، ثم برغبة في التقيؤ.
جلست والدنيا تدور من حولها. نظرت إلى أخيها أحمد؛ إنه أملها الأخير.. ربما كان أفضل من أخويه. إنه صاحب ملايين.. مؤكداً سيتقاسم المليون مع الجميع، لا بد أن يفعل، ليس من أجل المال، بل ليشعل نفسها بصيص أمل، وومضة خير!
تقدم منها أحمد وقال: ألم يأت دوري بعد؟ ثم قال هامساً دُون أن تسأله: لو كسبت المليون، فسيكون قد جاء في وقته المناسب تماماً. سأجري صفقة جديدة، أحتاج فيها إلى مليون، وربما أكثر!
شعرت بالدوار من جديد. ليتها لم تسمع ما سمعت.. ليتها لم تسأل، وليتهم لم يجيبوا.
نظر إليها زوجها بحب.. ربما كان هو الوحيد الذي أدرك أنها متعبة. ربما كان هو الذي لن يتخلى عنها لو ربح الجائزة.. ولكن ما يدريها؟.. ومن يضمن لها؟ نظرت إليه ملياً.. همّت أن تسأله.. توقّفت.. لقد خافت من إجابته.. خشيت أن يُطفئ في نفسها آخر ومضة حُب وأمل.
اقترب منها هامساً.
أبعدته.. قالت له بحدة: أرجوك.. أرجوك لا تتكلم.. لا أريد منك إجابة!
أسرعت إلى غرفة المكتب، جمعت كل الأوراق والمظاريف المتراكمة. حملت كل الإجابات التي تعبت فيها شهراً كاملاً. وألقت بذلك الحمل الثقيل في المطبخ في سلة المهملات، وأشعلت فيه النار لتأكله، وتُخفي معه الحقيقة. نظرت إلى الأوراق وهي تحترق.. تلمّست قلبها الأبيض النظيف. شعرت أن وهج النار ينتقل إليه. إنه يحترق ويتسخ بالسواد.. بكت بمرارة، ومسحت دموعها بسرعة. خافت أن يكتشفوا حقيقة أنفسهم المريضة، وقالت في سرها: على الإنسان أن يعيش مغمض العينين في كثير من الأحيان؛ لتستمر الحياة.
حملت صينية الكنافة ووضعتها أمامهم، وقالت: هذه هي المفاجأة التي أعددتها لكم. كانت قصة المليون مزاحا! نظر إليها الجميع مشدوهين. مدّت يدها لتأكل وقالت: هيا تفضلوا. نحن في أشد الحاجة إلى الحلوى لنمسح بها مرارة أفواهنا!
(وفاء شلبي – مجلة الأسرة: بتصرف).