العربية بين يديك: المجلد الرابع: الدرس (104): الصياد:

(1) حدّث أحد الأصدقاء قال: بينما أنا في منزلي صبيحة يوم، إذ دخل على صياد يحمل سمكة كبيرة، فَعَرضها علي، فلم أساومه فيها، بل أعطيتُهُ الثمن الذي أراده، فأخذهُ شاكراً متهللاً وقال: هذه هي المرة الأولى التي أخذت فيها الثمن الذي اقترحتُهُ. أحسن الله إليك كما أحسنت إلي، وجعلك سعيداً في نفسك، كما جعلك سعيداً في مالك. فسررت بهذه الدعوة كثيراً، وطمعت في أن تفتح لها أبواب السماء المغلقة دوني. وعجبت أن يهتدي شيخ عامي إلى معرفة حقيقة لا يعرفها إلا القليل من الخاصة، وهي أن للسعادة النفسية شأنا غير شأن السعادة المالية. فقلت له: يا شيخ؛ وهل توجد سعادة غير سعادة المال؟ فابتسم ابتسامة هادئة مؤثرة وقال: لو كانت السعادة سعادة المال لكنت أنا أشقى الناس؛ لأنني أفقر الناس. قلت: هل تعد نفسك سعيداً؟ قال: نعم؛ لأنني قانع برزقي، مسرور بعيشي، لا أحزن على فائت من العيش، ولا تذهب حسرة وراء مطمع من المطامع. فمن أي باب يدخل الشقاء إلى قلبي؟ قلت: أيها الرجل؛ ماذا بك؟ ما أرى إلا أنك شيخ قد فقد عقله. كيف تعد نفسك سعيداً، وأنت حاف غير منتعل، وعار إلا قليلاً من الأسمال البالية والأطمار الممزّقة؟ قال: إن كانت السعادة لذة النفس وراحتها، وكان الشقاء ألمها وعناءها، فأنا سعيد؛ لأني لا أجد في رثاثة ملبسي ولا في خشونة عيشي ما يولد لي ألماً، أو يُسبّب لي همّا. وإن كانت السعادة عندكم أمراً وراء ذلك، فأنا لا أفهمها إلا كذلك. قلت: ألا يحزنك النظر إلى الأغنياء في أثاثهم ومعاشهم، وقصورهم ومراكبهم، وخدمهم وخيولهم، ومطعمهم ومشربهم؟ ألا يحزنك هذا الفرق بين حالتك وحالتهم؟ قال: إنما يُصغر جميع هذه المناظر في عيني، ويهونها عندي، أنني لا أجد أصحابها قد نالوا من السعادة أكثر مما نلته بفقدانها.
(2) هذه المطاعم التي تذكرها؛ إن كان الغرض منها الامتلاء، فأنا لا أذكر أني بت ليلة في حياتي جائعاً، وإن كان الغرض منها قضاء شهوة النفس، فأنا لا آكل إلا إذا جعت، فأجدُ لكل ما يدخل جوفي لذة، لا أحسب أن في شهوات الطعام ما يفضلها. أمّا القصور؛ فإن لدي كوخاً صغيراً، لا أشعر أنه يضيق بي وبزوجتي وولدي، فأندم على أن لم يكن قصراً كبيراً. وإن كان لابدّ من إمتاع النظر بالمناظر الجميلة، فحسبي أن أحمل شبكتي كل مطلع فجر، وأذهب بها إلى شاطئ النهر، فأرى منظر السماء والماء، والأشعة البيضاء، والمروج الخضراء. ثم يطلع من ناحية الشروق قُرص الشمس كأنه مجن من ذهب، أو قطعة من لهب، فلا يبعد عن خط الأفق ميلاً أو ميلين حتى ينثر فوق سطح النهر حلية المتكسر، أو درّة المتحدّر. فإذا تجلى هذا المنظر أمام عيني – يتخلله سكون الطبيعة وهدوؤها – ملك على شعوري ووجداني، فاستغرقت فيه استغراق النائم في الأحلام اللذيذة، حتى أحب أن أعود إلى نفسي. ولا أزال هكذا هائماً في أحلامي، حتى أشعر بجذبة قوية فى يدي، فأنتبه فإذا السمك في الشبكة يضطرب، وما اضطرابه إلا أنه فارق الفضاء الذي يهيم فيه مطلق السراح، وبات في المحبس الذي لا يجد فيه مراحاً ولا مُضطرباً. فلا أجد له شبيهاً في حالته إلا الفقراء والأغنياء. يمشي الفقير كما يشتهي، وينتقل حيث يريد، كأنما هو الطائر الذي لا يقع إلا حيث يطيب له التغريد والتنقير. ولولا أن تتخطاه العيون، وتنبو عنه النواظر ما طار في كل فضاء، ولا تنقّل حيث يشاء. أمّا الغني فلا يتحرك ولا يسكن، إلا وعليه من الأحداق نطاق، ومن الأرصاد أغلال وأطواق، ولا يخرج من منزله، إلا إذا وقف أمام المرآة ساعة، يؤلف فيها من حقيقته وخياله ناظراً ومنظوراً، ثم يُطيل التفكير: هل يقع المنظور من الناظر موقعاً حسناً؟ حتى إذا استوثق لنفسه بذلك، خرج إلى الناس يمشي بينهم مشية يحرص فيها على الصورة التي استقر رأيه عليها، فلا يُطلق لجسمه في الحركة والالتفات، حتى لا يخرج بذلك عن حُكمها، ولا لفكره الحرية في النظر والاعتبار من مشاهدة الكون وآياته، مخافة أن يغفل عن إشارات السلام، ومظاهر الإكرام.
(3) فإذا أخذت من السمك كفاف يومي، عدت به، وبعته في الأسواق، أو على أبواب المنازل. فإذا أدبر النهار عدت إلى منزلي، فيعانقني ولدي، وتبش في وجهي زوجتي، فإذا قضيت بالسعي حق عيالي، وبالصلاة حق ربي، نمت في فراشي نومة هادئة مطمئنة، لا أحتاج معها إلى ديباج وحرير، أو مهد وثير. فهل أستطيع أن أعد نفسي شقياً، وأنا أروح الناس بالاً، وإن كنت أقلهم مالاً؟ لا فرق بيني وبين الغني، إلاّ أنّ الناس لا ينهضون إجلالاً لي إذا رأوني، ولا يمدون أعناقهم نحوي إذ مررت بهم، وأهوِن به من فرقٍ لا قيمة له عندي، ولا أثر له في نفسي. وما يعنيني من أمرهم، إن قاموا أو قعدوا، أو طاروا في الهواء أو غاصوا في أعماق الماء، ما دمت لا علاقة بيني وبينهم، وما دُمت لا أنظر إليهم، إلا بالعين التي ينظر بها الناس إلى الصور.
(4) لا علاقة بيني وبين أحد في هذا العالم، إلا تلك العلاقة بيني وبين ربي؛ فأنا أعبده حق عبادته، وأخلص في توحيده، فلا أعتقد ربوبية أحد سواه. ولا أكتمك يا سيدي أنني لا أستطيع الجمع بين توحيد الله، والاعتراف بالعظمة لأحد من الناس. ولقد أخذ هذا اليقين مكانه من قلبي، حتى لو طلع علي الملك المتوج في مواكبه وكواكبه، وراياته وأعلامه، لما خفق له قلبي خفقة الرهبة والخشية، ولا شغل من نفسي مكاناً أكثر مما يشغله ملك التمثيل.
(5) ولقد كان هذا اليقين أكبر سبب في عزائي، ورواحة نفسي من الهموم والأحزان؛ فما نزلت بي ضائقة، ولا هبّت علي عاصفة من عواصف هذا الكون، إلا انتزعني من بين مخالبها وهوانها علي، حتى لا أكاد أشعر بواقعها. وكيف أتألم لمصاب أنا أعلم حق العلم أنه مقدور ولا مفر منه، وأنني مأجور عليه على قدر احتمالي إياه، وسكوني إليه؟
(6) آمنت بالقضاء والقدر خيره وشره، وباليوم الآخر ثوابه وعقابه؛ فصغرت الدنيا في عيني، وصغر شأنها عندي، حتى ما أفرح بخيرها، ولا أحزن لشرها، ولا أعول على شأن من شؤونها، حتى شأن الحياة فيها. وأقسم ما خرجت مرة إلى ضفة النهر حاملاً شبكتي فوق عاتقي، إلا وقع الشك في نفسي: هل أعودُ إلى منزلي حاملا أم محمولا؟
(7) ما العالم إلا بحر زاخر، وما الناس إلا أسماكه المائجة فيه. وما ريب المنون إلا صيادٌ يحمل شبكته كل يوم ويلقيها في ذلك البحر، فتُمسك ما تُمسك، وتتُرك ما تترك، وما ينجو من شبكته اليوم لا ينجو منها غداً. فكيف أغتبط بما لا أملك، أو أعتمد على غير مُعتمَد، إذن أنا أضل الناس عقلاً وأضعفهم إيماناً.
(8) أكبرت هذا الرجل الصياد كل الإكبار، وأعجبت بصفاء ذهنه وذكاء قلبه، وحسدته على قناعته بسعادة نفسه. وقلت له: يا شيخ؛ إن الناس جميعاً يبكون على السعادة، ويفتشون عنها فلا يجدونها؛ فاستقر رأيهم على أن الشقاء لازم من لوازم الحياة، لا ينفك عنها، فكيف تَعُدّ العالم سعيداً، وما هو إلا شقاء؟ قال: لا يا سيدي، إن الإنسان سعيد بفطرته، وإنما هو الذي يجلب بنفسه الشقاء إلى نفسه؛ يشتد طمعه في المال، فيتعذر عليه مطمعه، فيطول بكاؤه وعناؤه. ويعتقد أن بلوغ الآمال في هذه الحياة حق من حقوقه، فإذا أخطأ سهمه، والتوى عليه غرضه، أن وشكا شكوى المظلوم من الظالم. ويبالغ في حُسن ظنه بالأيام، فإذا غدرت به – في محبوب لديه من مال أو ولد – فاجأه من ذلك ما لم يكن يُقَدِّرُ وقوعه، فناله من الهم والألم ما لم يكن ليناله لو خَبَرَ الدّهر، وقتل الأيام علماً وتجربة، وعرف أن جميع ما في يد الإنسان عاريَة مُستردة، ووديعة موقوتة، وأن هذا الإحراز الذي يزعمه الناس لأنفسهم خدعة من خدع النفوس الضعيفة، ووهم من أوهامها.
(9) إن أكثر ما يصيب الناس من شقوة إنما يأتي من طريق الأخلاق الباطنة، لا من طريق الوقائع الظاهرة. فالحاسد يتألم كلما وقع نظره على محسوده. والحقود يتألم كلما تذكر أنه عاجز عن الانتقام من عدوه. والطماع يتألم كلما ناجته بالإثم سريرته، والظالم يتألم كلما سمع ابتهال المظلوم بالدعاء عليه، أو حاقت به عاقبة ظلمه. وكذلك شأن الكاذب والنمام والمغتاب، وكل من تشتمل نفسه على رذيلة من الرذائل. فمن أراد أن يطلب السعادة فليطلبها بين جوانب النفس الفاضلة، وإلا فهو أشقى العالمين، وإن أحرز ذخائر الأرضي وخزائن السماء.
فما وصل الصيّادُ من حديثه إلى هذا الحد حتى نهض قائماً، وتناول عصاه وقال: أستودعك الله يا سيدي، وأدعو لك الدعوة التي أحببتها لنفسك وأحْبَبْتُها لك، وهي: أن يجعلك الله سعيداً في نفسك، كما جعلك سعيداً في مالك. والسلام عليك وَرَحْمَةً الله.
(من كتاب النظرات لمصطفى لطفي المنفلوطي، بتصرف).

اكتب رداً