العربية بين يديك: المجلد الرابع: الدرس السابع والعشرون: النجاشي وضيوفه:

لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما أصابهم، قال لهم: “لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه”. فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام.
وفي رجب سنة خمس من النبوة هاجر أول جماعة من الصحابة إلى الحبشة، وكانت هذه الجماعة تتكون من اثني عشر رجلاً وأربع نسوة، وكان معهم عُثمان بن عفان، ومعه زوجته رقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم.
تسلل المسلمون إلى ساحل البحر، فوجدوا سفينتين متجهتين إلى الحبشة، فاستأجروهما، وانطلقت بهم السفينتان، وتبعتهم جماعة من قريش، فلم يفلحوا في اللحاق بهم.
ولما سمع المهاجرون بأن قريشاً أسلمت رجعوا إلى مكة في شوال من العام نفسه. ولكن لما تبين لهم – قبل دخولهم مكة – أن ذلك الخبر كاذب، رجع منهم من رجع إلى الحبشة، ولم يدخل مكة منهم إلا مستخف، أو من دخل في جوار رجل من قريش.
ثم اشتد عليهم وعلى بقية المسلمين البلاءً والعذاب من قريش، وهنا أشار الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى. وفي هذه المرة هاجر ثلاثة وثمانون رجُلاً، وثماني عشرة امرأة، فيهم جعفر بن أبي طالب.
لما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها داراً وقراراً، ائتمروا بينهم أن يبعثوا منهم رجُلين من قريش جلدين إلى النجاشي، فَيَرُدُّهم عليهم ليفتنوهم في دينهم، ويخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها. فبعثوا عبد الله ابن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص بن وائل، وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تُكلما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم.
فخرجا حتى قدما على النجاشي – والمسلمون عنده بخير دار، عند خير جار – فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد أوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء؛ فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردّهم إليهم، فإن كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قدما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك؛ إنه قد أوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي. فقالت بطارقته حوله: صدقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما، فليردهم إلى بلادهم وقومهم. فغضب النجاشي، ثم قال: لا والله لا أسلمهم إليهما، ولا يكادُ قوم جاوروني ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم. فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموهُ؟ قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن. فلما جاؤوا لم يسجّدوا للنجاشي كما يفعل الآخرون، فسألهم عن ذلك، فردّوا عليه بأن تحيتهم هي السلام.
دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، فقال لهم: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل؟ فكلمه جعفر بن أبي طالب – رضوان الله عليه – كلاماً طيباً عن الإسلام، وقال فيما قال: أيها الملك؛ كنا قوماً أهل جاهلية وشرك، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ونستحل المحارم، ولا نعرف حلالاً ولا حراماً، ويأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا أن نعبد الله وحده، ولا نشرك به أحداً، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دُونه من الحجارة والأوثان. وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحُسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات. وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام – (وعدّد عليه أمور الإسلام) – فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحدهُ، فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث. فلمّا قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك. فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأ علي، فقرأ عليه صدراً من: {كهيعص} [مريم: 1]. فبكى النجاشي حتى اخضلت (ابتلت) لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم. ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما.
فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهُم. فقال له عبد الله بن أبي ربيعة – وكان أنقى الرجلين -: لا تفعل، فإن لهم أرحاماً، وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. ثم غدا عليه من الغد فقال له: أيها الملك؛ إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم، فسلهم عما يقولون فيه. فأرسل إليهم ليسألهم عنه، فاجتمع القوم، ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله ما قال الله، وما جاءنا به نبينا، كائناً في ذلك ما هو كائن. فلما دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه يقول: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فضرب النجاشي بيده إلى الأرض، فأخذ منها عوداً، ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود. فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله. ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم آمنون بأرضي، من سبّكم غرم، من سبّكم غرم، من سبّكم غرم، ما أحب أن لي جبلاً من ذهب، وإني آذيت رجُلاً منكم. ثم قال لحاشيته: رُدُّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين ردَّ علي مُلكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه. فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به.
(سيرة ابن هشام: بتصرف).

اكتب رداً