العلاقة بين المحن والمنح في التاريخ الإسلامي

9392-25-12-1425-4-2-2005 العلاقة بين المحن والمنح في التاريخ-الخليج-ص4

مقالة في جريدة الخليج الإماراتية ص 4

العدد 9392

بتاريخ 25/ 12/ 1425هـ

الموافق 4/ 2/ 2005م

الذي ينظر إلى التاريخ من زاوية العام والعامين لا يعي شيئاً عن حقيقة التاريخ ، والذي ينظر من زاوية العقد والعقدين لا يزال حتى الآن محدود الأفق ، يظن أن الأفق الذي يظهر له في البحر أو الصحراء هو نهاية العالم ، يسعى إليه فلا يصل إلا للسراب ، ويضني نفسه ليجد بعد أن أفناه التعب أنه لا يزال في أول الطريق . وربما يكتشف الحقيقة في الوقت المناسب ، فيعلم أن الكرة الأرضية مع ضخامة حجمها كروية ليس لها نهاية ، وربما يموت في الطريق من الجوع والعطش . حياتي وحياة أي إنسان ليست هي نهاية التاريخ ، فحياة الإنسان الواحد ليست إلا قطرة في بحر التاريخ الزاخر . وما نظنه نحن كوارث لا يلبث أحفادنا يدرسونه فيرونه تاريخاً حافلاً بالدروس والعبر ، فيتأتى لهم بالكوارث نتائج لا تحصل لهم بغيرها ، بل ربما لا تتحقق في حياة النعيم والرفاهية . نبكي نحن ونحزن ، وهم ينسون أحزاننا ، ويتذكرون قوله تعالى : {قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين} ، فلا أحد يبكي اليوم على من قُتِلَ في بغداد على يد المغول ، ولو فعل ذلك لعده الناس مجنوناً ، لكن تبقى العظة والعبرة والدروس . ربما نكون قد بكينا كثيراً ، لكن أحفادنا سيتعلمون أن العاقبة كانت في النهاية للحق المؤمن بقضيته على الباطل المكذب ، مهما كانت الخطوات صعبة ومرة .

وعندما قلبت في ذاكرتي تاريخ الفتن والمحن الكبرى التي مر بها المسلمون والعالم الإسلامي عبر التاريخ ، وجدتها ـ مع دمويتها ـ ليست إلا بوابة للتوسع المنقطع النظير .. لقد وجدتها معهداً كبيراً يخرج الناس منه بخبرات وتجارب تؤهلهم لمرحلة جديدة من التطور لم تكن تخطر على بالهم ، وإذا كانت النكبات التي مرت بها التيارات الدينية والفكرية الأخرى سبباً لإبادتهم أو لانحرافهم الفكري ، فإن النكبات التي مر بها العالم الإسلامي ـ منذ بداية نشأته ومولده ـ كانت بداية لمرحلة جديدة متطورة على كافة الأصعدة . وفيما يأتي تلك المحن والمصائب الكبرى التي مر بها المسلمون والعالم الإسلامي:

الأولى : فتنة التعذيب : ذكر ابن كثير في البداية والنهاية أن قبائل قريش تعاهدت على فتنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه ، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين ، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش ، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر من استضعفوه منهم يفتنونهم عن دينهم ، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه ، ومنهم من يعصمه الله منهم .

وقد كان الفرج بالإذن للصحابة رضي الله عنهم بالهجرة إلى الحبشة ، حيث قال صلى الله عليه وسلم لما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء : ” لو خرجتم إلى أرض الحبشة ؟ فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه “ . أما النصر فقد كانت هجرة الحبشة سبباً في قدوم وفود كثيرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ قبل الهجرة إلى المدينة ، وبعدها .

وهذه الفتنة لم تكن يسيرة كما قد يظن بعض الناس ، فاتفاق المشركين على تعذيب المسلمين كان أشبه بحلف تقوم على أساسه كل قبيلة بتعذيب المسلمين التابعين لها ، فهي عامة في معظم المنتسبين للدين الجديد .

الثانية : فتنة الحصار : لما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلداً أصابوا منه أمناً وقراراً ، فالنجاشي قد منع من لجأ إليه منهم ، وأن عمر وحمزة أسلموا وكانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وجعل الإسلام يفشو في القبائل ، فاجتمعوا وائتمروا على أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني عبد المطلب على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم ، فتعاهدوا وتواثقوا على ذلك ، وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم . وقد بلغوا في الحصار من فتنة الجهد الشديد حتى كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من الجوع . حتى كره عامة قريش ما أصابهم ، وأظهروا كراهيتهم لصحيفتهم الظالمة ، ثم أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه برحمته أرسل على صحيفة قريش الأرضة فلم تدع فيها اسماً هو لله إلا أكلته ، وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان . والفتنة هنا أكبر من فتنة التعذيب ، لأن الاتفاق على الحصار وما فيه من تعذيب كان مكتوباً ، واكسبه المتآمرون سمة القداسة القانونية بتعليقه على جدار الكعبة ، بينما كان الاتفاق على التعذيب شفهياً .

ثم كان الفرج بنقض الصحيفة ، وكان النصر بالهجرة إلى طيبة الطيبة بعد الخروج من الشعب بثلاث سنين ، قال تعالى : {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم} [التوبة : 40] .

الثالثة : فتنة الصد : عندما وصلت أمور الدعوة في مكة إلى طريق مسدود ، ثم ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عله يجد أذناً صاغية ، فرموه بالحجارة وأغروا به سفهاءهم ، فآذوه صلى الله عليه وسلم أشد الإيذاء . فما كان إلا أن يسر الله عز وجل له الجن بعد خروجه من الطائف ، فسمعوا القرآن وآمنوا به ، فاتسع نطاق الرسالة من عالم الإنس إلى عالم الإنس والجن معاً .

الرابعة : فتنة تجمع الأحزاب : كان تجمع الأحزاب في شوال سنة خمس من الهجرة ، حيث خرج نفر حتى قدموا على قريش بمكة ، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله !! ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاؤوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى حرب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخبروهم أنهم يكونون معهم عليه ، وأن قريشاً قد تابعوهم على ذلك ، واجتمعوا معهم فيه ، فخرجت قريش وغَطْفان وبنو مرة وبنو أَشْجع . وهذه الفتنة كأخواتها من قبل ، هي فتنة كبرى ، فالرغبة في استئصال المسلمين واضحة من كلام اليهود لقريش .

ثم كان الفرج فبعث الله الريح في ليلة شاتية شديدة البرد ، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم ، فرجعوا عن المدينة .

أما نتيجة هذه الفتنة فهي تحول المسلمين من وضع الدفاع إلى وضع الهجوم ، ولا يخفى ما في ذلك من عزة للمسلمين ، فهو نصر بكل المقاييس ، فقد قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَجْلَى الأَحْزَابَ عَنْهُ : ” الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلا يَغْزُونَنَا ، نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ “ [البخاري / المغازي : باب غزوة الخندق وهي الأحزاب (4109 ، 4110)] .

الخامسة : فتنة الردة : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت أحياء كثيرة من الأعراب ، ونجم النفاق بالمدينة ، وانحاز إلى مسيلمة الكذاب بنو حنيفة وخلق كثير باليمامة . والتفت على طليحة الأسدي بنو أسد وطيء وبشر كثير أيضاً ، وادعى النبوة أيضاً كما ادعاها مسيلمة الكذاب ، وعظم الخطب واشتدت الحال . ونفذ الصديق جيش أسامة فقل الجند عند الصديق ، فطمعت كثير من الأعراب في المدينة وراموا أن يهجموا عليها ، فجعل الصديق حراساً يبيتون بالجيوش حولها . حتى قال محمد بن إسحاق : ” ارتدت العرب عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خلا أهل المسجدين ؛ مكة والمدينة “ ، وهذه الفتنة من الفتن العظام التي عمت قبائل بأسرها .

ثم كان الفرج بما ظهر لأبي بكر رضي الله عنه من قتالهم ، ثم النصر عليهم . وقد أعقب هذه الفتنة من الفتوحات ما عز به الإسلام ، فوصلوا مضيق القسطنطينية (اسطنبول اليوم) شمالاً ، وفتحوا النوبة جنوباً ، ومرو شرقاً ، ودخلوا الأندلس غرباً .

السادسة : الفتنة بين المسلمين ( الصحابة رضي الله عنهم ) : بدأت شرارة الفتنة بمقتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين من الهجرة ، فقد تنادت الأمصار بالقصاص من قاتله رضي الله عنه والثأر ، لكن علياً رضي الله عنه اعتذر إليهم بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان ، وأنه لا يمكنه ذلك من يومه هذا ، فآثر التمهل يريد أن يتربص بهم الدوائر . وليس هذا موضع الحديث عن التفاصيل الطويلة للفتنة ، لكن ما يهمنا هو نتائجها ، فالفترة التي أعقبت ذلك ـ مع ما فيها من دَخَن ـ جعل الله فيها نصراً وعزاً للمسلمين ، فقد وصل المسلمون في دولة الوليد بن عبد الملك الصين شرقاً ، وسرقسطة من جهة الأندلس (مدينة شمال إسبانيا قريبة من حدود فرنسا) ، وفرغانه وخُجَنْدة شمالاً (من مدن قرغيزيه شمال طاجكستان) .

وظاهر أن هذه الفتنة من أعظم ما أصاب المسلمين من البلاء فيما بينهم .

السابعة : فتنة تفكك العالم الإسلامي : في عام (324 هـ) ” ضعف أمر الخلافة جداً … ولم يبق للخليفة حكم في غير بغداد ومعاملاتها … وأما بقية الأطراف : فالبصرة مع ابن رائق يولي فيها من شاء ، وخوزستان إلى أبي عبد الله البريدي … وأمر فارس إلى عماد الدولة علي بن بويه ، والري وأصبهان والجبل بيد أخيه ركن الدولة بن بويه … وكرمان بيد أبي علي محمد بن إلياس بن اليسع ، وبلاد الموصل والجزيرة وديار بكر ومضر وربيعة مع بني حمدان ، ومصر والشام في يد محمد بن ضغج ، وبلاد إفريقية (تونس) والمغرب في يد القائم بأمر الله ابن المهدي المتلقب بالفاطمي ، وقد تلقب أيضاً بأمير المؤمنين ، والأندلس في يد عبد الرحمن بن محمد الملقب بالناصر الأموي ، وخرسان وما وراء النهر في يد السعيد نصر بن أحمد الساماني ، وطبرستان وجرجان في يد الديلم ، والبحرين واليمامة وهجر (شرق الجزيرة العربية) في يد أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي القرمطي .

ولم يكن للمسلمين من تلك الفتنة فرج ، بل كان الأخذ والرد والمد والجزر بين تلك الدول بعضها بعضاً ، وبين المسلمين وعدوهم من الترك والروم والفرنجه والزنج ، حتى سلط الله عليهم عدواً من غيرهم استباح بيضتهم كما سيأتي في الفتنة التالية .

الثامنة : فتنة الاحتلال الخارجي ( المغول والصليبيون ) : لن أطيل بالخوض في تفاصيل المعارك التي جرت بين الصليبيين والمغول من جهة والمسلمين من جهة ، لكن الفاجعة العظمى كانت باحتلال الصليبيين لبيت المقدس سنة (492 هـ) ، حيث بقوا فيها ثنتين وتسعين سنة ، حتى كان الفرج وحرره السلطان صلاح الدين الأيوبي سنة (583 هـ) .

أما المغول فكانت الفاجعة باحتلالهم لبغداد وإسقاط الخلافة العباسية سنة (656 هـ) ، وقد امتدت دولتهم إلى دمشق ، ونكلوا بالمسلمين شر تنكيل . ثم كان كسر شأفة المغول في عين جالوت سنة (658 هـ) على يد الملك المظفر قطز . ثم كان الفرج بإسلام المغول ، فأسلم بركه خان ابن عم هولاكو وكتب إلى الظاهر ليتفقا على هولاكو ، فاقتتلا سنة (661 هـ) ، فقتل بركه خان أكثر أصحاب هولاكو ، وغرق أكثر من بقي ، وهرب هولاكو في شرذمة يسيرة . ولما مات بركه خان سنة (665 هـ) قام في الملك بعده منكوتمر بن طغان ، وهو على طريقته ومنواله في محبة العلماء والصالحين ومناصحة الملك الظاهر وتعظيمه وإكرام رسله .

أما النصر فقد كان للمسلمين بعد ذلك عز ونصر عظيمين ، حيث فتحت القسطنطينية (اسطنبول) سنة (857 هـ) على يد محمد الفاتح ، ووصل المسلمون إلى أسوار فينا عاصمة النمسا .

التاسعة : الفتنة التي تموج كموج البحر : عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ : كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ : أَيُّكُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْفِتَنَ ؟ فَقَالَ قَوْمٌ : نَحْنُ سَمِعْنَاهُ . فَقَالَ : لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ فِتْنَةَ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَجَارِهِ ؟ قَالُوا : أَجَلْ . قَالَ : تِلْكَ تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ ، وَلَكِنْ أَيُّكُمْ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْفِتَنَ الَّتِي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ : فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ ، فَقُلْتُ : أَنَا . قَالَ : أَنْتَ للهِ أَبُوكَ . قَالَ حُذَيْفَةُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ” تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُوداً عُوداً ، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ : عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادّاً ، كَالْكُوزِ مُجَخِّياً ، لا يَعْرِفُ مَعْرُوفاً وَلا يُنْكِرُ مُنْكَراً ، إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ “ . قَالَ حُذَيْفَةُ : وَحَدَّثْتُهُ أَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَاباً مُغْلَقاً يُوشِكُ أَنْ يُكْسَرَ . قَالَ عُمَرُ : أَكَسْراً لا أَبَا لَكَ ؟ فَلَوْ أَنَّهُ فُتِحَ لَعَلَّهُ كَانَ يُعَادُ ؟! قُلْتُ : لا ، بَلْ يُكْسَرُ . وَحَدَّثْتُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ حَدِيثاً لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ . قَالَ أَبُو خَالِدٍ ( سليمان بن حيان ) : فَقُلْتُ لِسَعْدٍ ( بن طارق بن أشيم ) : يَا أَبَا مَالِكٍ ، مَا أَسْوَدُ مُرْبَادّاً ؟ قَالَ : شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ . قَالَ : قُلْتُ : فَمَا الْكُوزُ مُجَخِّياً ؟ قَالَ : مَنْكُوساً [مسلم / الإيمان : باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً (144)] .

فكلام حذيفة رضي الله عنه يدل على أن تلك الفتنة كالحصير تشمل أنواع الفتن ، وكسر الباب المغلق لا يعني أن تلك الفتنة تعقب الكسر مباشرةً ، فقد تكون مقدماتها بعد الكسر وهي تتأخر ، والفتن الثمان السابقة ربما تكون مقدمات كافية للفتن التي تموج . ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ” إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلا كَانَ حَقّاً عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ خَيْراً لَهُمْ ، وَيُنْذِرَهُمْ مَا يَعْلَمُهُ شَرّاً لَهُمْ ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَتْ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا ، وَإِنَّ آخِرَهُمْ يُصِيبُهُمْ بَلاءٌ وَأُمُورٌ يُنْكِرُونَهَا ، ثُمَّ تَجِيءُ فِتَنٌ يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضاً (أي : يَجْعَل بَعْضهَا بَعْضاً رَقِيقاً ، فالْمُتَأَخِّرَة مِنْ الْفِتْنَة أَعْظَم مِنْ الْمُتَقَدِّمَة ، فَتَصِير الْمُتَقَدِّمَة عِنْدهَا رَقِيقَة) ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ : هَذِهِ مُهْلِكَتِي ، ثُمَّ تَنْكَشِفُ ، ثُمَّ تَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ : هَذِهِ مُهْلِكَتِي ، ثُمَّ تَنْكَشِفُ . فَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتُدْرِكْهُ مَوْتَتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يَأْتُوا إِلَيْهِ “ [ابن ماجه / الفتن : باب ما يكون من الفتن (3956) ، ومسند أحمد / مسند المكثرين من الصحابة : مسند عبد الله بن عمرو بن العاص (6467)] .

وهذه الفتنة التي يعيشها المسلمون تمثل قمة ما وصلوا إليه من الاختلاط في أمورهم ، فكان فيها كل أنواع الفتن التي حصلت فيما مضى من تاريخ المسلمين ، وهي :

1ـ التعذيب ، ومنه قول رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : ” صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا : قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ ، مُمِيلاتٌ مَائِلاتٌ ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ ، لا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ ، وَلا يَجِدْنَ رِيحَهَا ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا “ [مسلم / اللباس والزينة : باب النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات (2128)] . فهؤلاء ليس لهم عمل إلا ضرب الناس ، وقد اجتمع الصنفان في هذا الزمان نسأل الله العفو والعافية .

2ـ الحصار من العدو ، وقد حصل هذا لعدة دول في العالم الإسلامي . ومن ذلك ما روي عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه فَقَالَ : يُوشِكُ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَنْ لا يُجْبَى إِلَيْهِمْ قَفِيزٌ وَلا دِرْهَمٌ . قُلْنَا : مِنْ أَيْنَ ذَاكَ ؟ قَالَ : مِنْ قِبَلِ الْعَجَمِ يَمْنَعُونَ ذَاكَ . ثُمَّ قَالَ : يُوشِكُ أَهْلُ الشَّأْمِ أَنْ لا يُجْبَى إِلَيْهِمْ دِينَارٌ وَلا مُدْيٌ . قُلْنَا : مِنْ أَيْنَ ذَاكَ ؟ قَالَ : مِنْ قِبَلِ الرُّومِ . ثُمَّ سَكَتَ هُنَيَّةً ثُمَّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : ” يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي خَلِيفَةٌ يَحْثِي الْمَالَ حَثْياً لا يَعُدُّهُ عَدَداً “ [مسلم / الفتن وأشراط الساعة : باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل (2913)] .

3ـ التشويه المتعمد لصورة الإسلام في وسائل الإعلام الغربية .

4ـ تكالب الأمم ـ من سائر الأرض ـ على المسلمين ، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا “ ، فَقَالَ قَائِلٌ : وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : ” بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ “ ، فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَمَا الْوَهْنُ ؟ قَالَ : ” حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ “ [أبو داود / الملاحم : باب في تداعي الأمم على الإسلام (4297) ، وأحمد / مسند الأنصار : حديث ثوبان (21891)] .

5ـ إعلان بعض الناس لردتهم على رؤوس الأشهاد ، ومن ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ” بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَناً كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً ، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِناً وَيُصْبِحُ كَافِراً ، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا “ [مسلم / الإيمان : باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن (118)] .

6ـ الفتنة الجماعية بين المسلمين ، ومن ذلك ما روي عن عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَقَالَ : ” اعْدُدْ سِتّاً بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ : مَوْتِي ، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ مُوْتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطاً ، ثُمَّ فِتْنَةٌ لا يَبْقَى بَيْتٌ مِنْ الْعَرَبِ إِلاَّ دَخَلَتْهُ ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ ، فَيَغْدِرُونَ فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً ، تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفاً “ . وفي رواية ابن ماجه : ” وَفِتْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ لا يَبْقَى بَيْتُ مُسْلِمٍ إِلاَّ دَخَلَتْهُ “ [البخاري / الجزية : باب ما يحذر من الغدر (3176) ، وابن ماجه / الفتن : باب أشراط الساعة (4042)] .

7ـ تَفَكُّكُ المسلمين في هذا الزمان ظاهر لا يحتاج إلى بيان .

8ـ المحتل في هذا العصر يجثو في قلب العالم الإسلامي عدا عن أطرافه ، وفي الحديث : ” وَإِنَّ رَبِّي قَالَ : يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لا يُرَدُّ ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لأُمَّتِكَ أَنْ لا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ ، وَأَنْ لا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوّاً مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ ، وَلَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا ـ أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا ـ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضاً ، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضاً “ [مسلم / الفتن وأشراط الساعة : باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض (2889)] . وقد سفك المسلمون دماء بعضهم وتعدوا على أعراض بعضهم بعضاً ، فاحتلت فلسطين ، والعراق ، وغيرها ، ونسأل الله الحفظ مما سيأتي .

8ـ تعميم أنواع الفتن الخاصة ، وهذا مما لم يحصل فيما سبق من تاريخ الفتن في العالم الإسلامي ، فالعُري وشرب الخمور والمجون ـ على سبيل المثال ـ أصبح مشهداً يومياً مألوفاً على شاشة الفضائيات الخارجية التي تغزو بيوتنا ودولنا من بلاد الأعداء ، والتي لا يكاد يخلو منها بيت ، عدا عن شيوع الربا والرشوة وغيرها من المعاصي في بعض بلاد المسلمين .

إن المسيرة التاريخية السابقة تظهر ـ بما لا يدع مجالاً للشك ـ أن المحنة والفتنة هي مقدمة لتطور نوعي وكمي منقطع النظير ، التطور النوعي يتمثل في مجموع الخبرات التي يكتسبها الناس من المحنة حتى يملك ابن العشرين فكراً يوازي فكر ابن الأربعين أو الستين ، أما التطور الكمي فيتمثل في عدد المقبلين على الإسلام ، وما يتبع ذلك من توسع جغرافي طبيعي يتلازم مع التوسع الديموغرافي السكاني . ولعل تلك الفتن المتراكبة التي تصيب المسلمين في العصر الحديث ، وعبث شرذمة قليلة يهودية بدول العالم قاطبة ـ إسلامية وغير إسلامية ـ بدعوى صراع المصالح ، هي الجور الذي ملأ الأرض ، والذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ” لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ الدُّنْيَا إِلا يَوْمٌ لَطَوَّلَ اللهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَبْعَثَ فِيهِ رَجُلاً مِنِّي ، أَوْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ، يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمُ أَبِي ، يَمْلأُ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً “ [أبو داود / المهدي (4282 ، 4283) ، وابن ماجه / الفتن : باب خروج المهدي (4082) ، وأحمد / مسند المكثرين : مسند أبي سعيد الخدري (10746 ، 10920)] .

وإذا كان الكلام عن المهدي هو من قبيل الكلام في المغيبات ، فإن دخول أعداد كبيرة من طبقة المثقفين الغربيين في الإسلام بشهادة المسلمين الجدد أنفسهم ؛ أطباء ، وأساتذة جامعات ، وجنرالات ، وأعضاء برلمانات وقساوسة وغيرهم ، والهزيمة المنكرة التي مني بها ولا يزال يقاسيها المحتل القوي عسكرياً أمام الشعوب المحتلة التي تطمح بالحرية والقوية بإيمانها بربها ، وافتتاح عدد من المدارس غير المختلطة والبنوك الإسلامية في الدول الغربية على يد غير المسلمين ، وإقرار تعليم الدين الإسلامي في عدد من المدارس ، ودخول الإسلام إلى كل مدن العالم تقريباً ، وتسجيل الإسلام أعلى نسبة من حيث العدد ، إذ يشكلون ثلث سكان الأرض ، ومن حيث الداخلين فيه أيضاً . كل ذلك مؤشرات قوية على أن الغد مختلف تماماً عن الحاضر والماضي ، وأن الذين أفنوا أعمارهم في محاربة الإسلام سيجدون أنفسهم أمام أحد خيارين لا ثالث لهما : إما الاصطدام بعقبة كؤود لا يمكن استئصالها خلافاً لما يحلمون ، وإما أن يفتحوا آذانهم وعيونهم وعقولهم فينظروا بتمعن في حقيقة هذا الدين ومستقبله ويتأملوا ذلك جيداً ، ثم يدخلوا فيه أفواجاً .

تقول المهندسة ” مارثا أليت جونس “ أو ” مريم “ بعد الإسلام : ” بعد أحداث (11) سبتمبر ازداد شغفي بهذا الدين ، وأردت أن أعرف المزيد عنه ، فاكتشفت أن الإسلام دين يدعوا للسلام وينبذ العنف ، وأن الإسلام سيعم العالم كله ، وأول دولة سيسودها الإسلام هي أمريكا ، وأنا متأكدة أنه لو توافرت لهذا المجتمع المعلومات الكافية عن الإسلام لأصبحت أمريكا كلها تعتنق الإسلام “ .

إن العلاقة المتجذرة بين المحنة والمنحة تتعدى السياق التاريخي إلى السنة الكونية التي جعلها الله في الأرض ، فهذا الآيات تتكلم عن حوار جرى بين موسى وبني إسرائيل جاء فيه : {قال موسى لقومه : استعينوا بالله واصبروا ، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين * قالوا : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا . قال : عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون} [الأعراف : 128-129] . إنها محنة دنيوية لاختبار الصبر ، وبعدها منحة دنيوية لامتحان الشكر ، والدنيا كلها ليست إلا محطة للآخرة .

وهذا يحرك في نفسي شيئين أجدهما يلحان علي بذكرهما :

الأول : آية وحديث : أما الآية فقوله تعالى : {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً} [النساء : 159] ، أي يؤمن بعيسى عليه السلام بعد نزوله . أما الحديث فقول النبي صلى الله عليه وسلم : ” لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ، وَلا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ ، عِزّاً يُعِزُّ اللهُ بِهِ الإِسْلامَ ، وَذُلاً يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ “ [أحمد / مسند الشاميين : حديث تميم الداري (16509) ، وسند الأنصار : حديث المقداد بن الأسود (23302)] .

الثاني : عظم المسؤولية الملقاة على عاتقنا في عصر الانفتاح الإعلامي الرهيب الذي نشهده ، فالواجب علينا أن نستفيد من ذلك الانفتاح عبر الفضائيات وشبكة المعلومات الإلكترونية ورسائل الجوال وغيرها في توصيل رسالتنا للعالم أجمع ، والناس بعد ذلك أحرار في القبول أو الرفض ، فنحن مسؤولون عن توصيل الرسالة الربانية ، والهداية ليست من مسؤوليتنا ، ولكنها بيد الله خالق كل شيء .

اكتب رداً