العربية بين يديك: المجلد الرابع: الدرس الثالث والأربعون: بين العربية والقرآن:

أليس القرآن كتاب هذا الدين؟ ثم أليست العربية لغة هذا الكتاب؟ هل عرف العالم إسلاماً بلا قرآن؟ وهل عرف العالم قرآناً بغير العربية؟ إن ارتباط كتاب سماوي منزل بلغة بعينها – كارتباط الإسلام باللغة العربية – أمر لم نعرفه لغير هذا الدين، ولغير تلك اللغة. وإذا كان غير القرآن من الكتب السماوية المقدسة قد حرف ثم تُرجم إلى لغات كثيرة، وبقي عند أصحابه كتاباً تعبدياً مقدساً، فإن القرآن قرآن بلفظه، ونصه لم يترجم، ولا يمكن أن يترجم. وإن تُرجمت أفكاره ومعانيه، فهي لا تُسمى قرآنا، ولا يصح أن تكون – في الإسلام – كتاباً تعبدياً.
وهكذا أوجد الإسلام ارتباطاً بينه وبين اللغة العربية. وكان من أثر هذا الارتباط المبارك أن عادت على اللغة العربية جُهودُ وثمرات، لم يبذلها أصحابها – يوم بذلوها – إلا خدمة لهذا الدين، وليس هنا مجال الحديث عن نشأة علوم العربية، وارتباطها بخدمة الدين والقرآن. ومن مفاخر اللسان العربي أن كان هو لغة المعجزة الخالدة القرآن.
لقد شدّ الإسلام أقواماً غير عرب إلى اللغة العربية، ونشر اللغة العربية في بلاد لم يكن للعرب فيها سلطان. لقد خرجت العربية من جزيرة العرب مع الفتح الإسلامي، فإذا هي لغة أهل الشام والعراق وما وراءه، ومصر وما وراءها، وإذا هي تتعدى كونها لغة دين إلى كونها لغة شعوب ودول.
وما زال للإسلام أثره في نشر العربية وحفظها في البلاد غير العربية، وهو أثر يفوق آثار المراكز الثقافية التي نراها اليوم منتشرة في بلاد العالم؛ لنشر لغات كالفرنسية، أو الإنجليزية. إن أصحاب هذه المراكز ينفقون الملايين في سبيل الدعاية لمراكزهم وثقافتهم، ونشر لغتهم، على حين أن الإسلام يجعل من أهل البلاد التي تنتشر فيها شعوباً راغبة في تعلم لغته. وما أكثر ما نسمع أصواتاً – ترتفع في تلك البلاد – مطالبة بإرسال المدرسين العرب لتعليم اللغة العربية، أو مطالبة بقبول أبنائها في مدارس البلاد العربية وجامعاتها؛ ليتعلموا اللغة العربية!
لقد استهوى الإسلام أقواماً؛ فحبب إليهم لغته، بل لقد كان للإسلام فضل عظيم في ظهور عدد لا يحصى من العلماء غير العرب، نبغوا في لغة العرب وعلومها من نحو وصرف وبلاغة، وحسبنا سيبويه علماً لهذه الطائفة من العلماء غير العرب، الذين بلغوا القمة في علوم العربية، حتى أصبحوا مضرب المثل.
كان للإسلام الفضل في نقل اللغة العربية – تلك النقلة الواسعة – من لغة قوم إلى لغة أقوام، ومن لغة محدودة بحدود أصحابها، إلى لغة دعوة جاءت إلى البشر كافة، فكانت العربية بذلك لسان تلك الدعوة، ولغة تلك الرسالة، ومستودع ما صدر عن تلك الرسالة من فكر وحضارة.
(بتصرف من كتاب “نحو وعي لغوي” لمازن المبارك).

اكتب رداً